لا تقوم الأمة الإسلامية الواحدة على أساس من هيكل سياسي واحد فحسب، ولا على أساس من إرتباط مصالح إقتصادية فقط، ولا على توحيد مناهج تربوية، أو على التقاء أعراف وتقاليد، ولغة وتاريخ، وإن كانت كل هذه العوامل وكثير غيرها يمكن أن يكون دليلاً على وحدة الأمة، أو مظهراً من مظاهرها، أو رمزاً من رموزها، أو عاملاً مساعداً على بنائها.
فالأمة المسلمة الواحدة تقوم قبل كل شيء على جوهر صاف، وتلتقي على أسس عميقة في وجودها وكيانها، وتلتف كلها حول محور واحد ثابت يجمعها.
إن هذا الجوهر والمحور، وإن تلك الأسس العميقة كلها، يمكن أن نعبر عنها بكلمة الحق، إنه الحق الذي يقوم عليه الكون كله، والخبر كله. إنه التوحيد بإمتداد معانية ومداه إلى جميع آفاق الحياة الدنيا، إنه التوحيد الذي يربط الحياة الدنيا بالآخرة، إنه التوحيد الذي قضت مشيئة الله أن يكون أمة في الأرض تحمله رسالة ونهجاً، وتجاهد في الحياة الدنيا من أجله، لتنشره في الأرض صلاحاً وخيراً وبراً وإحساناً.
هذه الأمة التي قضت مشيئة الله أن تقوم في الأرض، لتحمل رسالة الله إلى الناس، على مدى العصور والدهور، هذه الأمة هي أمة الإسلام، أمة التوحيد، أمة لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلى هذا الأساس تقوم هذه الأمة، وهذا هو جوهرها، وهذا هو محور كيانها ووجودها، {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92].
هذه الأمة التي إمتدت مع تاريخ الإنسان كله في الأرض، لتمثل أشرف إنتساب، وأعز أرومه، ولتمثل جوهر الخير والصلاح، وحقيقة الأخوة والحرية، وأمانة العدالة، وقوة الأمن، وبهجة السعادة، هذه الأمة لم تعد حاجة العرب وحدهم، ولا حاجة منطقة الشرق الأوسط، ولا حاجة أي شعب محدود أو قطر محدود، إنها حاجة الإنسان حيثما كان، حاجة الشعوب كلها والأقطار كلها والعصور كلها، إنها الهواء والماء للإنسان، وإنها الغذاء لوجوده الصادق كله، إنها السلام الصادق، والأمن والأمان، والحرية والعدالة والإخاء، في أصفى معانيها، لمن يريد أن يكون هذا حقاً تقوم الحياة عليه، لا شعاراً زائفاً وزخرفاً كاذباً تتاجر به الثورات والشهوات والأهواء، والمصالح الدنيوية المادية المتصارعة.
من أجل الإنسان ومسئوليته في الحياة الدنيا من خلافة وعبادة وأمانة وعمارة، من أجل تحقيق عبوديته لله، ووفائه بعهده مع الله، من أجل ذلك كله يكون قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض ضرورة دين وعبادة وسياسة وإقتصاد، وإجتماع وسعادة، ضرورة حياتية وأخروية، ضرورة لا غناء عنها، وسيظل غياب هذه الأمة عن حياة الإنسان في الأرض سبباً لفوران الشهوة والفساد والإجرام فيها.
ولقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، مبشراً ونذيراً، خاتم الأنبياء والمرسلين عندما أمتد الفساد في الأرض وظهر، فكان قيام الأمة الإسلامية أو امتدادها آنذاك ضرورة لصلاح الإنسان وخيره، ضرورة حضارية، إنسانية، إيمانية، ويصف القرآن الكريم فترة البعثة النبوية، وضرورة قيام الأمة المسلمة، لتحمل رسالة الله في الأرض، بقوله سبحانه وتعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون* قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين*فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون*من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون} [الروم:41-44].
لابد أن نعي هذه الحقيقة وعياً كاملاً، لندرك خطورة القضية التي نعرضها، قضية قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض، ولندرك كذلك مدى الإفساد الذي يقع في حياتنا وفي حياة الإنسان عامة في الأرض إذا تهاونا عن تحقيق هذه القضية ولندرك عظيم الجريمة التي يرتكبها الظالمون بحق الإنسان، وبحق الشعوب كلها حين يصدون عن سبيل الله، وحين يقاومون مسيرة الحق، ويقاومون بناء الأمة المسلمة في الأرض.
ولابد كذلك أن تدرك الحركات الإسلامية هذه الحقيقة، لتعلم مدى مسئوليتها في قضية قيام الأمة المسلمة الواحدة ومدى الخطر الذي يتحقق نتيجة الشقاق والتدابر، والتمزق والشتات، وضياع الجهود ووهنها.
وإذا كان لقاء الحركات الإسلامية أمراً ضرورياً لبناء الأمة المسلمة الواحدة، فإن تحقيقه يتيسر ما دامت الحركات الإسلامية صادقة في نهجها، زاهدة في شهوات الدنيا، مقبلة على نعيم الآخرة، مدركة عظيم مسئوليتها بحق الإنسان، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يضع هذه المسئولية على أكتاف رجالها الصادقين الثابتين، إذا تولى الضعفاء والمنافقون: {هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد:38].
وإذا كان قيام الأمة المسلمة الواحدة أمراً من عند الله، وقاعدة من قواعد هذا الدين، فلابد أن يكون الله سبحانه وتعالى قد وضع في دينه الأسس التي يجب أن يلتقي عليها المؤمنون، وكذلك الأسس التي تلتقي عليها الحركات الإسلامية، لتتجمع الجهود المؤمنة الصادقة كلها في مجرى خير واحد، حتى لا تتبدد وتتمزق
إذن فلننظر في دين الله، في كتاب الله وسنة رسوله، لنبحث هناك عن الأسس التي يجب أن نطرحها في واقعنا اليوم، لتلتقي عليها الحركات الإسلامية، وليقوم لقاء المؤمنين على طريق بناء الأمة المسلمة الواحدة، كما ذكرنا سابقاً.
ومن هذا المنطلق، يجب أن ندرس واقعنا، لندرك ما هي أخطر القضايا التي يجب أن نثيرها، لنعالج القضية المطروحة، قضية جمع جهود الحركات الإسلامية، جمع جهود المسلمين، لبناء الأمة المسلمة الواحدة.
فمن كتاب الله إذن وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن رؤية الواقع الذي نعيش فيه من خلال منهاج الله، من هذا كله نقدم عرض الأسس التي نتصورها، ونعتبر أنها أساسية في لقاء المؤمنين، وجمع جهود الحركات الإسلامية، على طريق بناء الأمة المسلمة الواحدة.
ومع كل آية أو حديث نجد حقيقة البعد الإنساني لأهمية قيام الأمة المسلمة، للقاء المؤمنين، حتى يصبح لقاء المؤمنين أمل الإنسان في الأرض كلها، وحتى يصبح قيام الأمة المسلمة الواحدة في الأرض حاجة كل مظلوم وأمنية كل صادق.
إلا عصابة المجرمين، طغمة المفسدين، وزهوة الظالمين المعتدين، إلا أولئك الذين يعيشون على نهب الثروات، وسحق الإنسان، أو تخدير العباد حتى تسكن وتلين، إلا أولئك فإنهم لن يجدوا في قيام الأمة المسلمة الواحدة راحة لهم أبداً، سيحاربونها ما أمكنهم ذلك، حتى يبقى لهم نعيم اللصوص ومتعة الإجرام.
إن السعي الجاد إلى بناء الأمة الإسلامية الواحدة على جوهر التوحيد وقواعد الإيمان، على كتاب الله وسنة رسوله، على الحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض، إن هذا السعي الجاد هو الصحوة الإسلامية وجوهرها.
إن التوحيد بكل صفائه وجلائه هو جوهر قيام الأمة المسلمة الواحدة، وهو جوهر لقاء المؤمنين، ويحمل التوحيد ذاته أقوى إشارة إلى البعد الإنساني في قيام الأمة الواحدة، حيث يكون التوحيد جوهر فطرة الإنسان حيثما كان، جوهر وجوده، ماضيه وحاضره ومستقلبه، جوهر دنياه وآخرته.
فالتوحيد هو أصدق علاقة إنسانية، وأطهر صلة بين الشعوب وأقوى عُروة بين المؤمنين، ما دام التوحيد صادقاً صافياً.
من هذا البعد الإنساني لقيام الأمة المسلمة الواحدة، يحمل المؤمنون في الأرض مظهراً من مظاهر الصحوة، وقوة من قوى العمل، ليخاطبوا العالم كله، من كل منابره، بالآيات البينات والأحاديث الشريفة التي تجلو هذه الحقيقة، وتجلو نهجها الصادق الأمين، وتقيم عزتها الصادقة الأمينة.
إننا حين نبرز هذا البعد الإنساني في الأمة المسلمة الواحدة في الأرض، نؤكد إنتفاء هذا البعد الإنساني عن أي كيان أو تجمع للكفر والإلحاد، إن كرامة الإنسان تنهار في تربة الكفر والإلحاد، وقد جعل الله الكافرين كالأنعام بل أضل!
وإذا كان الإسلام يحترم حقوق الإنسان، فإنها حقوق لا تهبه الكرامة الحقة والعزة الطاهرة إلا أن يؤمن بالله وحده لا شريك له، إن رغيف الخبز والكساء والمأوى، والماء والهواء، حق للإنسان حتى يعيش فيبتلى ويمحص ولكن رغيف الخبز والكساء والمأوى، كل ذلك على أهميته، لا يهب الإنسان عزته وكرامته، ولا يجلو إنسانيته وجوهره، ذلك أن الطعام والمأوى حاجة الإنسان كما هي حاجة الحيوان والأنعام.
وربما ينطلق داعية من الدعاة المسلمين ليدافع عن كرامة الإنسان من حيث أنه إنسان، مهما كان مذهبه ومعتقده، كافراً أو من أهل الكتاب، أو مجوسياً أو وثنياً أو غير ذلك، ونعجب من هذه الدعوة لسبب بسيط، ففي واقعنا اليوم يجد معظم هؤلاء حقوقهم، إلا الإنسان المسلم الذي يسحق ويذل بسبب إيمانه، ولا يجد من يدعو لحماية كرامته وحقوقه، ويتنطع ذلك الداعية المسلم ناسياً ذلك كله، ليدعو إلى حماية كرامة الإنسان الوثني الملحد، وهي محمية بين أهله الوثنيين!
وإن أول حماية لكرامة الإنسان، وأول حق من حقوقه، هو أن تبلغه رسالة الله، وأن تصان فطرته ليتلقى الرسالة بصفائها، وأن ينال الرعاية والإعداد حتى يتدرب على ممارسة الإيمان وقواعده، كما يتدرب على الكلام والمشي والطعام وخلاف ذلك.
الكاتب: د. عدنان علي رضا النحوي.
المصدر: موقع لقاء المؤمنين.